الرباط.. دور الوكيل القذر
تطبيل لـ "الميل الساحلي" للمغرب باستقبال الملك وزراء خارجية 3 دول من تحالف الساحل

تعوّد محيط القصر الملكي المغربي الاستثمار وترصد أي خلاف بين دولة ما والجزائر، ولم يعد حشر الملك محمد السادس أنفه في منطقة الساحل يثير الغرابة أو يخفى على أحد، وأيام فقط بعد أن حاول انقلابيو مالي عبثا الاستعلاء وتجاوز الخطوط الحمر بمسيّرة اخترقت الحدود مع الجزائر، وما خلفه الحادث دبلوماسيا، تم فرش البساط الأحمر لثلاثة وزراء خارجية دول تحالف الساحل “مالي، النيجر وبوركينافاسو” في الدار البيضاء، بالمشاركة في منتدى “كرانس مونتانا” في الوهلة الأولى، قبل أن يحظى الثلاثي باستقبال جلالته بقصره في الرباط، وهو اللقاء الذي خصصت له الصحافة المغربية تغطية مميزة، عاد فيها الترويج للمشروع الذي يسعى به محمد السادس إغراء البلدان الثلاثة بإطلالة على الأطلسي، في حلم يخفي نوايا إبعاد الجزائر عن ملف الساحل، والعداء الذي أبان عنه المتمردون على الشرعية في الدول الثلاث لم يكن من فراغ.
يتفق المتابعون للمستجدات الإقليمية والدولية، أن تحولات داخلية في منطقة الساحل شملت تغيير العقلية وعودة إلى نوع من السيادة الجديدة، بالرغبة في اتخاذ القرارات بشكل مستقل، وهو لم تعارضه يوما الجزائر، بل رافعت من أجل أن تبتعد القوى الأجنبية عن المنطقة، ويكون التعامل مع شعوبها دون أطماع وخلفيات، لكن وجودها ومساعيها لإرساء الاستقرار يحرج الكثيرين، والمغرب في صدارة الدول التي تعودت على الاستثمار في الخلافات ولا تزال في نهج التحريض.
وأول أمس الإثنين، استقبل الملك محمد السادس، بقصره في الرباط، وزراء الشؤون الخارجية للبلدان الثلاثة الأعضاء في تحالف دول الساحل، كاراموكو جون ماري تراوري، وزير خارجية بوركينا فاسو، عبد الله ديوب، وزير خارجية مالي، باكاري ياوو سانغاري، وزير خارجية النيجر، والزيارة في مثل هذا التوقيت تثير أكثر من فضول، بعيدا عن الاعتقاد أنها تهز ركنا أو تستفز.
يثير الاستقبال أسئلة خاصة أن المملكة لا تقتسم حدود جغرافية مباشرة مع هذه الدول، ولا تملك ممرات برية أو بحرية تربطها بها. فما الذي يدفع الرباط للقفز إلى قلب الساحل؟ وهل هي فعلاً مجرد أداة لتنفيذ أجندات خارجية؟
ولا يمكن ربط هذا الاجتماع دون ذكر تراجع النفوذ الفرنسي في الساحل، خاصة بعد طرد القوات الفرنسية من مالي (2022)، بوركينا فاسو، والنيجر (2023)، حيث تواجه باريس فراغاً استراتيجياً في المنطقة.
هذا الفراغ، بحسب مراقبين، تسعى فرنسا سده وإعادة نفوذها المفقود عبر المغرب، وهو ما اكدة الرئيس ماكرون في لقائه مع السفراء الفرنسيين بتاريخ 5 جانفي الماضي، حين صرح أنه يعوّل على “حنكة الملك محمد السادس لتلميع صورة باريس في العواصم الإفريقية، خصوصا لدى دول الساحل.” ليضيف “المغرب وسيلتنا للعودة إلى إفريقيا”، ويبدو في كل هذا أن الرباط تتطوع لتلعب دور الوسيط القذر، ولو بوعود يدرك ملكها مسبقا أنها لن تتحقق، على غرار التسويق لمشروع “طريق الأطلسي” الذي أعلن عنه منذ عامين ولا يزال مجرد كلام.
ما تطلق عليه جهات -خدّرتها المملكة بمساعيها الوهمية- اسم “الدبلوماسية الناعمة” لما يقترحه “جلالته” من مشاريع تنموية لم تر النور لغاية اليوم بل اقتنع شخصيا بصعوبة تجسيدها، لن تمكن دول الساحل من رفع التحدي الأمني والمساهمة في تنمية شعوبها وضمان الاستقرار، وبات للعلن أن اجتماعات التحريض والوساطات المشبوهة، نصّب بها المغرب نفسه بلدا وكيلا لجهات تحمل الأطماع ولا تزال ترى للساحل و-ولإفريقيا ككل- منبع الثروات وخدمة مصالحها الاقتصادية، نظير مصالح احتلالية توسعية لا أقل ولا أكثر.
ولا غرابة أن يستقبل الملك انقلابيين ويتباهى، والجميع يدرك أن موجة الانقلابات العسكرية التي شملت مالي، بوركينا فاسو والنيجر في فترة زمنية لا تتجاوز العامين، كشفت عن بصمة “المخزن”، حيث أن أغلب القادة العسكريين الذين تمسكوا بمقاليد السلطة في هذه البلدان وتمردوا على الشرعية، كانوا قد تخرجوا من الأكاديمية الملكية في فاس. فكيف يكرس الاستقرار من علم أبجديات الفوضى؟
مزاعم “الميل الساحلي” للمغرب الذي يروج له إعلام “المخزن” بالتأكيد أنه خلال استقبال محمد السادس لوزراء خارجية مالي، النيجر وبوركينافاسو نقل الثلاثي “امتنان رؤساء دولهم للاهتمام الدائم بمنطقة الساحل، وكذا المبادرات الملكية لفائدة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلدان المنطقة وساكنتها.” وإشادتهم “بتمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي، مجددين انخراطهم التام والتزامهم من أجل تسريع تفعيلها”، لا يعكس في الواقع النوايا الحسنة للجار الغربي، وصحة أسطوانة مقاربة التنمية والرقي التي تريدها الرباط لشعوب الساحل، بل يعكس العزلة التي يعاني منها تحالف دول الساحل، الذي تأسس في سبتمبر 2023 وما يواجهه من تحديات داخلية وخارجية، عبر قيادة عسكرية حاكمة تولت السلطة عبر انقلابات، وتفتقر للشرعية الدستورية، مما يحد من قبول هذا التكتل إقليمياً ودولياً، بل عزز عزلته أكثر بانسحابه من “إيكواس”، ولعل الرباط نافذة نحو العالم، رغم أن الخبراء يعلمون الخلفيات، ولا يمكن عزلها عن مساعي إقناع دول المنطقة بالتطبيع مع حليف المملكة الجديد، في خدمة أخرى عرضها الملك على تل أبيب نظير اعراف بسيادة مزعومة علي الصحراء الغربية.
اختار المغرب الوساطة القذرة، شأنها شأن المهمات السابقة بهدف عزل الجزائر أو تغييبها عن الساحل، ومن يجيد الحساب بمفرده لا يحرج، فلا فقر تم القضاء عليه هناك، ولا صوت الرصاص توقف، ولا شعوب مالي والنيجر وبوركينافاسو استرجعت سيادة القرار، ولا استقرار ولا آفاق عدا أحلام اليقظة يلهي بها ملك المغرب في سيناريو أرجوحة تنسي جوع صبي ولا تقضي عليه.. الرباط تحوم بالساحل لأجندات والانقلابيون ماضون في التعنت، وكل خريطة يراد رسمها هناك سيكون للجزائر بخصوصها تعليق وحضور مهما حاول “المخزن” ومن وراءه ومن يثق فيه.
تعليقات 0