الفنانة -الأيقونة مليكة دومران.. عرفان بحجم العطاء

جمهور من ذهب اكتظت به قاعة "الزينيث" في باريس حضر حفلها بمناسبة "يناير"

عادت وهي التي ارتبط اسمها بوطن وهوية لا تمحوهما الأزمنة بعواصفها وتغيراتها.. عادت رغم فترة من الألم والوجع.. عادت وكيف لا تعود تلك التي ظلت قمم جرجرة وهواء الوطن يحرصان عليها، تماما كما تربت على حبهما في الطفولة وسكنا قلبها في برد المنافي والغربة التي لم تكن خيارا سهلا لابنة تيزي هيبل.. عادت أيقونة الفن القبائلي مليكة دومران إلى جمهورها في رأس السنة الأمازيغية..

عادت في “يناير”.. المناسبة التي توحّد ولا تشتت تماما كما جمعت بألحانها وأشعارها جمهورها الذي قصد قاعة “الزينيث” بباريس بأعداد كبيرة، الأحد الماضي.. قدموا للقائها من جديد وهي التي لم تفارقهم لسنين وقدّمت لهم.. للجزائر.. للهوية وللأصالة الأجمل والأنقى.. أجيال تعاقبت وبقي اسم الفنانة مليكة دومران يصوّب الميزان كلما مالت الكفة لما لا يليق بنضالها.. ببساطة وحكمة القرى تسلحت لتعانق الحداثة والعصرنة دون عقدة.. إن احمر وجهها فلن يكون سوى فخرا بحب ووفاء المتابعين لإبداعها.. كان ولا يزال فنها رديفا للوفاء بالجذور.. يظل يملي الطريق الصحيح للمنبع.. لمهد البدايات.. “نك لاصليو إيمازيغن ويذاك مو يشفح ييسم”.. هكذا غنت ذات يوم في إحدى روائعها “أزواو”.. وهل هناك أجمل من فنانة كسبت احترام وود الصغار والكبار برصيد لا يضاهي سوى حلي الفضة التي لا تفقد صلاحيتها ولا تطال نوعيتها الشبهات؟؟

كانت التصفيقات والزغاريد عربون عرفان وتقدير من حضور قياسي في قاعة من أكبر قاعات الحفلات بباريس، ولا يمتلئ “الزينيث” أو يُرضي أي كان إلا إن استجاب صوت مثل صوت دومران لهؤلاء الذين لم يخيّبوها.. فكان الأحد 12 جانفي 2025 كافيا ليُسعد ويعيد الابتسامة للفنانة التي لا تُنصٍف مسيرتها الكلمات، والتي لم تزعم يوما أنها بلغت القمة.. حملت على عاتقها مسؤولية تشريف وطنها الجزائر بأصالته.. بهويته.. وحيث وطئت قدماها ذكرت العنوان الصحيح.. تلكم مليكة دومران التي لا تركض على العشوائيات فكان المشوار بحجم صدقها.. إصرارها على النجاح وتشريف قمم الجبال وإسماع هدير مياه الوديان.. وإعلاء صوت المرأة الجزائرية..

التحدي عنوان تعرفه تلك التي تنحدر من تربة أنجبت الروائي- القامة الراحل مولود فرعون، فلم يكن طريق الفن ورودا وعطرا، لكن تحدي هذا العام كان الأكبر للانتصار على الوجع الذي سكن العظام.. كان على الفنانة مليكة دومران أن تلملم الجروح وتصعد للمنصة من جديد بعد حداد على الأم والشقيق.. ذلك الحزن الذي لا يتقن فنان من طينتها التعبير عنه بسهولة.. وهي التي فقدت والدتها قبل أن يغتال شقيقها.. وكيف بعد ألمين أن تسترجع القوة وتضع مرارة الألم جانبا بعجالة؟؟ كان لا بد من جمهور كذلك الذي جاءها لقاعة “الزينيث” ولم يبخل عنها بالتشجيعات لاستعادة نشوة الفرح.. سعادة لم تخفيها في نهاية الحفل.. ثمة ألم أكبر من أن يحتمل ومأساة أكبر من أن تتسع لها المشاعر.. لكن في حالة دومران كان حب الجمهور وتعلقه بصوتها أكبر من أن يشلها الشجن والحزن، فعادت في مناسبة فرح وبالفرح..

لم يطاوع القلم ليكتب عن الفنانة مليكة دومران مجرد كلام اعتيادي، فهي مطربة ليست كالمطربات، ولأنها تغني غناء ليس كالغناء، فمن الطبيعي أن تكون الكلمات عنها ليست كالكلمات العادية وإن لم تكن في مستوى فنها، فذلك قناعة أن النوع الذي اختارته أرقى إبداع وهو الذي سبق زمنه مع احتكاكها بالموسيقى العصرية باكرا، فكيف للكلمات آن تضاهي الفن الراقي.. كان لا بد أن نستوعب القصة ونفكك معاني آغانيها لنتعلم كيف نسمع ونتمتع بفن ابنة قمم جرجرة الشامخة.

لا تغني دومران بصوتها ومشاعرها فحسب، وإنما تنقل لنا نبضات قلبها، دقاته وخفقاته وسكناته عبر صوتها، فكأن دقات قلبها هي إيقاعات أغنياتها، وقلبها الكبير الذي احتوى كل حب الأوفياء كان كافيا ليمسح الدموع ويحدد مواعدا أخرى للأفراح..

الطبق متنوع والعمر مجرد رقم ليكون دخول دومران بالأغنية-المرجع في مقاس الذهب الرافض للتقليد..”أسارو”.. ومن غيرها غنى عن المرأة التي تحن لبيت الأهل الذي لن يسكن الطريق المؤدي إليه نفس الشوق حين تفقد الأم.. هي الفنانة التي تقتبس إبداعها وتستلهمه من اليوميات في القرى.. لا تنفصل عن ذلك الوسط المتواضع.. عن نسوة يعلمن لكل العالم معنى الصبر حين تنعدم البدائل..

من “آسارو”، “آججيڤ نوشروف”، “فكيغاك سورا”، “آزواو”، “ثاقشيشث إبورن”، “ساولغ آولاش”.. وعناوين أخرى كلها كانت لحظات متعة.. كان لا بد من الفنانة أن تنهض من جديد.. أن تستعيد ذلك الحضور القوي الذي لا يعرف سره سوى دومران.. كان لا بد من عودة في يوم “يناير”.. في إحدى الرموز التي ناضلت ورافعت من أجل أن يكون موعد لم شمل الجزائريين.. أن يتم ترسميه.. كان الاعتراف ب “يناير” يوما، والعرفان في “الزينيث” أكبر من طرف جمهور مليكة دومران لها، وكان ذلك ما تحتاجه ليؤكد لها عدم استعداده للاستغناء عنها.. ردد أغانيها.. ورافقها بالتصفيقات والزغاريد.. “مسكود إڤني يحواج أك إثران أكن أك لغاشي حواجن أفنان” -طالما السماء تحتاج لنجوم، كذلك الناس بحاجة لفنان- هكذا قال الفيلسوف أيت منڤلات ذات يوم..

لم تشأ الفنانة مليكة دومران أن يغيب في الحفل اسم الفنان الراحل معطوب الوناس، فاختارت “أشويق” يحمل من التحسر على فقدان رجال من طينته غدرا، اختتمته بأمل أن الجيل الصاعد يصون الأمانة ويواصل الدرب بالوفاء للجزائر وكل ما يصنع عزتها وفخرها.

باللباس القبائلي والحلي التقليدي -الفضة- كما عوّدتنا دائما، غنت الفنانة مليكة دومران وبذلك القلب الذي ينبض بحب بلادها.. الغربة والترحال جعلها أكثر تمسكا بأحجار القرى وعتبات منازلها وقرميدها.. لا يشفى المرء من بداياته.. لا مكان أغلى من ذلك الذي تخطو فيه الخطوات الأولى.. ولا جغرافيا في العالم أهم من غبار الطفولة..

“الزينيث” الباريسي كان خطوة أخرى للأيقونة مليكة دومران التي أعربت عن أملها في تنظيم حفل بنفس الحجم في الجزائر قريبا، ولأنها تدرك كل الحب الذي نكنه لها، تسكننا قناعة أن موعد آخر مشابه لما عاشته في “يناير” سيكون بين ذويها بأرض الوطن في وقت ليس ببعيد وتعود حتما للربيع ألوانه.. والأكيد أن “أسارو” لا يزال طويلا..

“ثوغالين ثمربوحث دومران -ناغ”..