انقلابيو مالي.. بلاغة المخزن
الغد الجزائري- بدت الخارجية المالية من المتقنين بامتياز للهجة “المخزن” في بيان تهدف في مضمونه الرد على تصريحات وزير الدولة، وزير الخارجية أحمد عطاف، خلال ندوته الصحفية، الإثنين الماضي، والتي أكد فيها رفض الجزائر اعتبار حركة الأزواد “إرهابية” -وهي التي كانت الطرف البارز الذي وقّع على اتفاق السلم والمصالحة لعام 2015 – وذهب المجلس العسكري المنبثق عن الانقلاب على السلطة الشرعية، هذه المرة، بعيدا، باتهام الجزائر “بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد”، و”دعم الجماعات الإرهابية التي تزعزع استقرار مالي ومنطقة الساحل” حسبها، وفي المعادلة من يرى أن المراحل الانتقالية والتسيير المؤقت والاستجداء بالأجانب لتطهير المستنقع الذي أوقع فيه بلده، لا يلوم نفسه بل غيره، وكذلك يتصرف عسكريو مالي، في اعتقاد سخيف بأن “التطاول” على الجزائر هواية وأن أمن الساحل مضمون ومرهون بالمساعي اليائسة لتغييب دورها.
تمضي الأيام لتظهر جليا أن المجلس العسكري بباماكو قد وضع مصلحة الشعب المالي جانبا، ولم يعد همه الرئيس العودة للمسار الديمقراطي مع قرار تمديد المرحلة الانتقالية، بل بات يجد في ترصّد أي كلمة جزائرية لصرف النظر عن الأهم، وتظل الجزائر ماسكة بالخطاب الدبلوماسي -الذي نسجته منذ الاستقلال ولم يمليه أي طرف عليها – في التعامل مع من يمنح لنواياها الحسنة مفاهيم أخرى باستشارة الرباط، بدل تبني أسلوب لا يليق بعراقة رجال قدّموا الكثير لاستقرار وأمن مالي، تاركة للانقلابيين سياسة “نكران الجميل” واعتبار البحث عن مصلحة الماليين “تدخّلا في شؤونهم”.
بيان سلطات باماكو كان رداً على تصريحات وزير الدولة وزير الشؤون الخارجية، أحمد عطاف، بشأن رفض الجزائر تصنيف باماكو حركات الأزواد “تنظيمات إرهابية”، وذلك خلال ندوة صحفية لعرض “حوصلة حول نشاط الدبلوماسية الجزائرية خلال عام 2024″، الإثنين الماضي.
وأعربت الخارجية المالية في بيانها عن “دهشتها” إزاء هذه التصريحات، حيث استنكرت ما زعمت آنه “التدخل الجزائري في شؤونها الداخلية”، مشيرةً إلى البيان رقم 064 الصادر في 25 جانفي 2024، مؤكدة أن “هذه الجماعات الإرهابية (حركات الأزواد) –حسب وصفها- تلقى دعمًا لوجستيًا على الأراضي الجزائرية، ما يشكل تهديدًا لأمن المدنيين في مالي والمنطقة”، وتحدثت عن رفضها القاطع لما أسمته “النزعة الأبوية التي تتبناها بعض الجهات الجزائرية” ووصفت تصريحات وزير الخارجية أحمد عطاف بأنها “تعكس التدخل المتكرر والازدراء لسيادة مالي وقراراتها الاستراتيجية”.
وإن كان الأمر لا يستحق إطالة التعليق عليه، فإن ذكر “منطقة القبائل” في بيان الخارجية المالية في ردها على مسؤول الدبلوماسية الجزائرية، إلا أن النقطة تعيد إلى البدايات التي دفعت للمتمردين على الشرعية بباماكو لحشر أنفهم في الشؤون الداخلية لدولة -وتتهم الغير بذلك- فلا يتحدث عن هذا الجزء من الجزائر الواحدة الموحدة إلا المملكة وأطل بها مندوبها الأممي عمر هلال في أكثر من مناسبة، لعله يسجل استفزازا يسعد به “جلالته” أو هؤلاء الذين يساندهم بلاده لزرع الفتنة في الدولة الجارة، رغم إدراكه أن وحدة التراب الجزائري لا تزعزعها نسمة ولا عاصفة، والخوف كل الخوف، على من يدّعي ملكية أرض ليست له ويستجدي اعترافا باحتلالها، أما مالي فيبدو أن تأكيد وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة “دعم الرباط للمرحلة الانتقالية” أثلج الصدور ولا حرج في أن يتم استلهام أساليب الملك محمد السادس لاستفزاز الجزائر، وهو ما تعكسه بعض المقتطفات السخيفة التي وردت في البيان.
وكان وزير الدولة، وزير الخارجية أحمد عطاف الإثنين الماضي، قد قال في رده على سؤال حول التحفظات الجزائرية بشأن وجود قوات “فاغنر” الروسية بشمال مالي “قلنا للأصدقاء الروس لن نسمح ولن نقبل، لكوننا جزائريين، بأن تُحول حركات سياسية كانت طرفاً موقّعاً على اتفاق الجزائر للسلم في مالي، بين ليلة وضحاها إلى عصابات إرهابية، وهذه الجماعات هي التي سيتم التفاوض معها مستقبلاً”، وأضاف في السياق ذاته “تتمسك الجزائر بمشاركة حركات الأزواد في أي مسار سياسي ومسعى للسلام في مالي” مشددا على أنّ “معاودة التفاوض بين هذه الحركات وباماكو آتية لا محالة، التفاوض والوساطة الجزائرية آتية والحل السياسي أيضاً، والجزائر ستكون موجودة” ودون لف أو دوران، شرح المسعى الذي لا يحتاج للهجة من الجانب المالي بصنع بها تخمينات لحسن النوايا أو يجعل بها الصديق غريبا، ليقول عطاف “الجزائر أرادت إقناع الصديق الروسي بالبديهيات التي عالجت بها الجزائر من خلال تجربتها الطويلة للملفات في منطقة الساحل، على مدى عقود وأن الحل العسكري في شمال مالي غير ممكن، وجُرب ثلاث مرات وفشل”.
هذه الدولة الجزائرية التي تحذر من الخراب، وتلح على وحدة التراب المالي وإبعاد الأجانب حتى لا تتحول باماكو لقمة صائغة للمرتزقة ومن يرى -ليس في البلد الإفريقي فحسب- بل في القارة جمعاء منابع تخدم مصالحه، لا يتأخر المجلس العسكري في المحاولة -عبثا – “لتهذيبها” وهو ما يعنيه الهجوم اللاذع الذي شنّه المتحدث باسم الحكومة المالية، عبد الله مايغا شهر سبتمبر الماضي، على الجزائر، خلال كلمة ألقاها خلال الدورة الـ 79 للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، متهما الجزائر “بإيواء الإرهابيين” موجها سهامه لوزير الخارجية أحمد عطاف والمندوب الدائم للجزائر بالأمم المتحدة عمار بن جامع.
ودون الوقوف مطولا على الأسلوب الذي استعان به مايغا يومها، نسي الرجل أنه درس في هذه الجزائر، وهذه الأخيرة تعلم وتنير الدرب وتأوي، وكما منحت العلم له ووقف على كرمها، تواصل الحرص على أمن الجيران والأصدقاء، وما يحوم من مخاطر حول الساحل يهمها، والتعبير عن القلق تأكيد على صون المصالح، وقد لا تحتاج مالي -رغم أن الواقع يؤكد غير ذلك- نصائح الجزائر لكن لن تبعدها عن قول الحق والتصرف بما تراه لائقا في زمن يدفع الجحود إلى تبني دروب لا يسلكها إلا أصحاب الذاكرة القصيرة، ومن ينكر جميل الجزائر يميل يمينا ويسارا، لكنه حتما سيعود لخطها، وما لمالي بدائل وخيارات أفضل غير التدارك يومها.
تعليقات 0