بوريطة.. الوقاحة لا تعني الجرأة

قال إن حل الدولتين يخسر فيه المتاجرون بالشعارات ويدّعون مساندة فلسطين

كان على مسؤول دبلوماسية المخزن أن يعفي الجمع الذي حضر أشغال الاجتماع الخامس للتحالف الدولي من أجل تنفيذ حل الدولتين، بالعاصمة الرباط، من خطاباته العاطفية واستفزاز الجزائر  وجنوب افريقيا -وغيرهما من البلدان التي تعرف التمييز بين الحق والباطل بحكم تجاربها التاريخية العسيرة- بخصوص القضية الفلسطينية التي لا يسبقها أحد للمرافعة من أجلها -دون أن تحتكر ذلك- إلا أن الرجل فضل الالتفات مرة أخرى للدول التي حين تقول تفعل، وحين تدعم لا تتملق وحين تلتزم تفي ولا تتراجع أو ترتبك، ولأن وزير خارجية المغرب يفضل الاستعارة على الصراحة، تحدث عن دول “تدعم فلسطين بالشعارات” ولا يساعدها حل الدولتين لكونها -وفق بوريطة- تتاجر بالقضية. كان يكفي صمت القصر الملكي على واقع فلسطين للرد على الواجهة الدبلوماسية لنظام “المخزن” وبوقها الذي يبدو وكأنه في مهمة تلميع، مرة أخرى، وبنفس الألفاظ التي تضمنتها كلمته في القمة العربية ببغداد، إلا أنه لا بأس أن نقول خارج قوس الدبلوماسية -وبحكم صلة الصداقة بين الرباط ومن يبيد في غزة والضفة الغربية بفلسطين الموجوعة حاليا- ودون حرج “الجاهلُ يمكن أن تُعلِّمه، والجافي يمكن أن تُهذِّبه، ولكن الذليل الذي نشأ على الذل، يتعذَّر أن تغرس في نفسه عزَّةً وإباءً وشهامةً تُلحقه بالرجال.”

 ثمة جرأة تعادل الوقاحة وثمة ثقافة دبلوماسية تبحث عبثا عن كسوة لما هو عار ومفضوح، وثمة شرخ لا يسده الغراء ولا يخفيه الظل، وفي كل هذا يختزل تدخل وزير الخارجية المغربي، وهو يقف مدافعا مجتهدا عن “حل الدولتين”، أمس الثلاثاء، في كلمة ألقاها تزامنا مع افتتاح أشغال الاجتماع الخامس للتحالف الدولي من أجل تنفيذ حل الدولتين، بالشراكة مع هولندا، تحت شعار: “استدامة الزخم لعملية السلام: الدروس المستفادة، قصص النجاح، والخطوات القادمة”، واعتبر الرجل أن هذا الحل الوحيد “الذي لا خاسر فيه”، مشددا على أن “الفلسطينيين سيحصلون بموجبه على حريتهم وكرامتهم، بينما ينال الإسرائيليون أمنهم واستقرارهم، وتظفر المنطقة بأسرها بفرص تنمية وتقدم حقيقية”، ومن الطبيعي أن يهم الحليف بأمن واستقرار صديقه، ويمر مرور الكرام على حرية الفلسطيني الذي يقاوم ليبقى في أرضه، بل بات يعتبر الارتقاء بحد ذاته نجاة -من شدة القصف- في غزة.

بوريطة -على غرار الملك محمد السادس- وكل ساسة المملكة، غير قادرين على المرافعة من أجل فلسطين دون التطرق للدولة التي تحرجهم مبادئها، ليأني الطعن في المواقف النبيلة، بل ذكرها المسؤول الدبلوماسي المغربي من بين الخاسرين، في حال تجسيد “حل الدولتين”، ولعل ما يجهله بوريطة أن خطابات مندوب الجزائر الأممي عمار بن جامع طيلة عام ونصف ليست تهريجا واحتكارا للدعم والسند، بل حفاظا لماء الوجه في زمن بيع الذمم وموت ضمير المطبعين، ولا حاجة للجزائر في دروس ترفع من نبض قلوب أبناء شعبها بحب فلسطين وجرعات التضامن مع الشعب الجبار.. والشعارات لم تكن يوما سيركا للترفيه والتخفيف من خيبات أشقاء حوّلوا القضية -البوصلة لملحق ثانوي والاحتلال يهدد الوجود الفلسطيني.

بوريطة في اجتماع الرباط، أمس، انتقد ضمنيا المقاومة الفلسطينية ودول أخرى على غرار الجزائر، ليقول بالحرف الواحد إن هناك من يخسر بتجسيد حل الدولتين “وهم المتطرفون من كل الأطراف، الذين لا يتغذون إلا على نار الصراع، ولا يعيشون إلا في ظله. وهم أيضا أولئك الذين يتاجرون بالشعارات ويدّعون مساندة الشعب الفلسطيني دون أن يقدموا له حتى كيس أرز، لأنهم ببساطة يفضلون راحة المعارضة على مسؤولية الفعل”، ولا يحتاج الرجل لتبرز الجزائر ما فعلته لفلسطين، أما حل الدولتين، فيبدو ان البوق الدبلوماسي المخزني لم يحيّن بعد مستجدات القضية في مقر وزارته، وهي التي تواجه اليوم تهديد الاحتلال الصهيوني للوجود الفلسطيني، ولم يتحرك “جلالته” ورئيس لجنة القدس لمساومته بورقة التطبيع لعله يرضخ ويعترف بالدولة الفلسطينية.

هذه الجزائر التي يزعم بوريطة أنها عاجزة عن إيصال حبة أرز لغزة، هي نفسها التي كلما دعت لحشد الدعم للقضية الفلسطينية، تجد الجار الغربي في موكب المطبعين، وتتابع عن بعد سفنا تحول ميناء طنجة لمحطة عبور الأسلحة التي يقتل بها الفلسطيني.

الوضع في غزة لا يتحمل السجال والجدل والمناكفة، إلا أن استفزاز بوريطة ليس كلاما عابرا، ومساومة الجزائر على فلسطين اختبار لا يمكن أن ينجح فيه من يرغب في تجاوزه، مهما اجتهد بوريطة لترقيع الموقف المخزي لقصر العلويين.. الجزائر لم تفرش البساط الأحمر لجنود الاحتلال على أراضيها.. لم تبرم اتفاقيات تطعن بها شعبا مقاوما من أجل سيادته.. الجزائر لم تجرّم المقاومة..

حيث كان صوت فلسطين، ساهمت الجزائر في إعلائه، وكان الأجدر على بوريطة أن يشرح في اجتماع الرباط، أمس، أسباب إسكات صرخة المغربي المناهض للتطبيع في الشارع أما الجزائر فلا درس يلقن لها حين يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية بل لها من الحجج والتبريرات لتعلم القريب والبعيد ماذا تعني قضايا التحرر وماذا يعني الاحتلال.. وكل احتلال  لا تنفع جرأته المزعومة للحديث عن فلسطين، ولا مرادفا لها سوى الوقاحة.