غزة.. في مواجهة “رأسمالية الكوارث”
معركة أخرى بالقطاع الفلسطيني لا تعرف الهدنة تتعلق بالبقاء على الأرض

لا يبدو الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مستعجلا لتجسيد خطته بخصوص غزة في وجهها المستقبلي، وفق ما كشف في تصريحاته أمس، إلا أنه أكد أنها عرضا تجاريا، بعد أن بات الرجل يشعر وكأنه يأمر ولا يناقش، بل في تناوله لمستقبل القطاع الفلسطيني يعكس صيغة منمطة من فكر وممارسة “رأسمالية الكوارث” التي ترى في دمار الحروب مناسبات للاستحواذ على الأرض بأرخص الأثمان لممارسة المضاربات العقارية، إلا بعيدا عن رفض مصر واستهجان الأردن -الدولتين التي قال ترامب إنه اقترح على مسؤوليها استقبال قرابة مليوني فلسطيني يفكر في تهجيرهم- يجهل الرجل كيف بات ابن غزة يتأقلم مع واقع غزته -وليس ذلك ترويجا لصموده ومنحه صورة الأسطورة وبشر من فولاذ وكل الصور التي يرفض سكان غزة أن نربطها بهم في وقت يواجهون كل أشكال المعاناة- لكن للتأكيد أن الغزي لا يهاجر إلا بمزاجه ولا تفرض عليه وجهات، وفي حالات الضغط يظهر بما لا يتصوره الضاغط، ورغم ذلك ينكر من يقول إن الوضع بخير هناك، فثمة حروب ومعارك تتواصل بعيدا عن تلك التي دمر فيها الاحتلال كل شيء.
تدور على أرض غزة، هذه الأيام -ورغم اتفاق وقف إطلاق النار وصفقات إطلاق سراح الأسرى- معركة لا تعرف الهدنة، حيث الحياة والموت يتنازعان على كل شبر، فهناك لا تنطفئ شعلة البقاء في قلوب السكان، الذين يقفون في مواجهة الفناء، لا كضحايا، بل كجنود يحملون راية الحياة وسط أنقاضها، فلا يهادنون الرماد الذي يحاول أن يغطي الأفق، ولا يسلّمون لإرادة الاحتلال طمس وجودهم.
الأعلام الفلسطينية المنتصبة فوق ركام المنازل وعلى الخيام، ترفرف بين الشوارع وعلى العمارات التي هشمها الاحتلال تذكير العائدين والناجين أن فلسطين واقفة، وحية فيهم مهما حاول نتنياهو وجنوده محوها.. البعض حمل خيام النزوح للشمال، وفي هذه الأيام الباردة يتعامل ابن غزة في عراء الخيام ممزقة، كل من حظي بشيء من دفء المأوى في غزة في مثل ليالي الهدنة التي تمضي عليه ظل صدره ثقيلا من العجز، لكنه يحتفظ بواجب حماية ذويه.. صورة آب أو أم يمرران الدفء بين أضلاع الأطفال قدر المستطاع.. والرفاهية طبقات وأشكال.. هناك…في شمال غزة أوصل الاحتلال السكان إلى المفاضلة بين بقايا البيوت والركام، والخيام والأرصفة أو العراء.. ضرائب الحرب التي يتجاهلها المرقي العقاري الأمريكي.
هذا الذي يفكر في التعامل مع غزة مثلما تعامل أجداده مع الهنود الحمر، يبدو أنه فهم كل شيء إلا أن مستشاروه لم يشرحوا له طبيعة هذا الشعب، شعب يرفض أن يكون مثاليا مطلقا لكنه فريد.. غير مستقر على حال، لكنه متعايش مع أسوأ حال.. أو هكذا يبدو على الأقل.. يمكن للغزاوي أن يعيد تدوير أي شيء، يعيد تصحيح حديد التسليح للبناء، ويطحن الركام ليصنع الخرسانة، ويخلق إسمنت من مواد هالكة، شعب “مجرم وليس بريء” -وفق تصور الاحتلال- لكنه مقدس..كيف؟ لا تسأل، الغزاوي صاحب التناقضات، كيمياء يصعب تحليلها.. طيلة الحرب، صنع شعب غزة البنزين من مواد غريبة ركبها واستخدمها.. وفر السولار من براميل المياه المعطوبة، واستخدم زيت القلي وقودا للسيارات والشاحنات، ومولدات الكهرباء..
جيل من غزة يريد الهجرة والبحث عن فرصة حياة جديدة ومستقرة – واقع لا ينكر وهو من تداعيات الحصار منذ سنوات- لكن بمزاجه، مجرد أن تصبح الفكرة أن رئيسا أمريكيا من ينوي ترحيل الغزاوي من أرضه، سيتناقض كل ما يقوله الغزاوي عن الهجرة.. شعب عنيد، يرحل لأنه يريد.. لأنه يبحث عن تغيير.. أما أن يُرحّل -على طريقة ترامب- فذلك “محض هراء” كما ردوا جميعا عليه بين الركام والوحل هناك.. هؤلاء متمسكون الناس بالبقاء لمجرد الشعور أن غريبا يريد أن يرحله من أرضه.. لا يطبق الفلسطيني وصفة الغرباء.. يمارس سيادته ولو في عز الاحتلال.. قيدوا كل شيء فيه إلا حرية التفكير واختيار الغد المناسب لهم وليس الذي يخدم مصالح المستوطن وداعميه..
سكان غزة تمردوا على السلطة وانتخبوا “حماس” بعد أوسلو، وحين تخيب الظن “حماس” يهتفون باسم السلطة.. ثم لا يدري ترامب أن غزة التي خاضت خمسة حروب.. جرّبت كل شيء.. لم يعد لدى ابنها ما يخسره.. الموت والحياة مرادفان.. وابن غزة لن يرضى إلا بوطن موحد أرضا.. شعبا.. جوازا.. هوية ومطارا.. وذلك لا يمنحه ترامب ولا غيره.. ينتزعه بدمه.. ذلك درس الحرب الأخيرة..
تعليقات 0