فرنسا – الجزائر.. عبء الذاكرة يحجب الآفاق
الغد الجزائري- يظل الإرث الاستعماري عبئا كبيرا على أكتاف الحكومات الفرنسية المتعاقبة، وتعنّتها على عدم تحمّله -أمام إلحاح الجزائر- العائق الرئيس أمام أية علاقة من شأنها السماح للبلدين بالذهاب بعيدا وتجاوز الذكريات الثقيلة التي احتفظ بها التاريخ، ولعل دعوة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، في خطابه أمام نواب غرفتي البرلمان، فرنسا للتسريع بتنظيف المواقع التي قامت فيها بالتجارب النووية في الصحراء، وعدم الافتخار بسلب جماجم الشهداء تأكيد على أن المصالحة الحقيقية لا تتحقق بحلحلة خلافات وليدة الساعة، تتعلق تارة بين مزاعم “الدفاع عن حرية كاتب في إدلاء الرأي” أو أمور سيادية حشر “الإليزي” مرارا أنفه فيها، في تصرفات تترجم تجاهله لاستقلال الجزائر، وتباين في ملفات أخرى، بل بيت القصيد في ماضٍ لا تنوي باريس مواجهة سواده.
وضع الرئيس تبون النقاط على الحروف لدى تطرقه للعلاقات الجزائرية – الفرنسية، في الخطاب الذي ألقاه أمام البرلمان، معتبرا أن التاريخ والذاكرة معيار ومقياس الذهاب قدما مع باريس، ودون إبهام أو غموض استنطق القاضي الأول في البلاد الوقائع التاريخية التي لا تزال فرنسا تتحاشى نقاشها بالجرأة والجدية، ليعيدها للواجهة، مذكّرا الضفة الأخرى بالشروط التي تضمن الإنصاف وتزيل الضبابية نحو آفاق يتطلع إليها الشعبان الجزائري والفرنسي، وكان المعنى عميق وبوعي أن أرواح الشهداء لا تضاهيها الماديات، ليضيف قائلا “قيمة شهدائنا الذين سقطوا في المقاومة والثورة التحريرية المجيدة أغلى من مليارات الدولارات وأنا لا أطلب من مستعمر الأمس التعويض المادي ولكن الاعتراف بجرائمه”، وإن ساد الاعتقاد -كما صرح به مسؤول “الإليزي” في إحدى المرات، أن جيله لم يعش الحقبة الاستعمارية ولا يتحمل تداعياتها- أجاب رئيس الجمهورية بوضوح، أول أمس، بالقول إن “صون الذّاكرة الوطنية والحفاظ على “كرامة الآباء والأجداد المجاهدين والشهداء في المقاومة الشعبية وفي الثورة التحريرية المجيدة”.ِ
وذكر بأنّ “الاستعمار لما وطئت قدماه أرض الجزائر كان الشعب الجزائري آنذاك متعلما وكانت الجزائر مانحة للقمح، غير أنّ الاستعمار ارتكب المجزرة تلو الأخرى في كل ربوع بلادنا ولم يأت إلا بالدّمار والخراب وإبادة الشعب”، كما أشار في الإطار نفسه إلى “الإبادة التي تعرض لها الشعب الجزائري إبان فترة الاستعمار بعدة مناطق كالزعاطشة والأغواط وسقوط 45 ألف شهيد في مظاهرات 8 ماي 1945 وغيرها من المجازر والمحارق، بالإضافة إلى وجود 500 جمجمة بفرنسا لم نسترجِع منها إلاّ 24”.
عن التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في الصحراء، ذكّر تبون الضفة الأخرى بالنفايات والسموم التي لا تزال تتسبب في أضرار للسكان وللبيئة بالمناطق التي شملتها، قائلا في السياق ذاته إن “الاستعمار أصبح فيما بعد قوة نووية، لكنّه ترك بالجزائر الأمراض الناجمة عن تجاربه النووية وأهلنا بالجنوب يعانون إلى اليوم”، وخاطب مستعمر الأمس بوضوح “لا تعطونا الأموال، لكن تعالوا ونظفوا لنا الأوساخ التي تركتموها”، مبرزا أنّ “الصراع مع مستعمر الأمس حول الذاكرة ليس له خلفيات”، كما أن الجزائريين “أصحاب حقّ لن يسقُط ويطالبون بالاعتراف بالمجازر التي ارتكبها الاستعمار”، كما لفت “لا يمكننا أن نثق في كل من يتنكر لرسالة الشهداء والمجاهدين”.
ولعل الرسالة موجّهة أساسا لقطب ظل يكبح كل تقارب جزائري – فرنسي، مدعيا أن الطرف الأول الرابح الأكبر في السير قدما وتحسين العلاقات، ليؤكد كلام الرئيس تبون لليمين المتطرف الفرنسي أن الجزائر ذات السيادة لن ترضخ للمساومة على التاريخ وأوجاع شعب خلال الفترة الاستعمارية والقبول بسياسة الأمر الواقع، ولا غد في الأفق دون التكفل بالماضي بما يضمن حقوق كل من تضرر جراء ممارسات استعمارية لا تزال فرنسا تعتقد أنها مجرد أحداث فرضتها على جنودها مرحلة من التاريخ، وبدل التحرّك في الاتجاه الصحيح تتعنت بين متجاهل لمطلب الاعتراف بالجرائم ومن يسكنه الحنين للجزائر “فرنسية”.
الرجل تحدث ولكلماته وزنا ومعنى، فحيث تسعى العديد من الشخصيات الفرنسية العتاب والنبش واللوم والنقد، رد الرئيس تبون لسد الثغرات، فالبلد الذي يدشن نصبا تذكاريا لسفاح من أمثال “بيجو” لا يتألم لضحايا الحقبة الاستعمارية، ولا مجال للتساؤل عن هذه الجزائر التي يعاب عليها الإلحاح على التاريخ، ليجيب رئيس الدولة قائلا “سأكون ممتنا إن تم تشييد نصب تذكاري للأمير عبد القادر في باريس”، ولكل من يحتكر الحضارة وحقوق الإنسان والديمقراطية هناك، أجاب بأن حضن الحضارة لا يليق به “الافتخار بسطو جماجم الشهداء”، واختزل المشهد لفرنسا الرسمية لعل الصورة تتضح أكثر لمن يلقن دروس الديمقراطية ” لست ديمقراطيا وسأواصل محاسبتكم ..لن أتنازل عن الذاكرة ليتم وصفي بالديمقراطي.”
ما أوضحه الرئيس تبون يؤكد أن الجرائم الاستعمارية لا تخفى وراء الشمس، وأن العلاقات بين الدول مسؤوليات أيضا، بعيدا عن شراكات اقتصادية أو سياسية، والرابط التاريخي يطفو ودون جرأة في مواجهة الماضي.. بحلوّه ومرّه، لا خطوة نحو الأمام ولا تقدير للمسافة الفاصلة عن محطة الوصول، ولعل كل مسؤول فرنسي -وكل الشخصيات الفرنسية “من اليمين بالخصوص” التي تعوّدت، في العديد من المناسبات، بإطلالات لصب النار على الزيت- قد وصلتهم الرسالة، وتأكدوا أن الإجماع على رؤية توافقية تتيح لفرنسا والجزائر المضي قدما يقف أساسا على استعداد باريس للالتفات للوراء قبل الانطلاق بمسلمات صحيحة عكس الاكتفاء بأنصاف الحقائق.
تعليقات 0