في غزة تُباد حتى الثقافة..فأين المثقف العربي؟

الغد الجزائري- تباد غزة ولا تتعلق التفاصيل بيوميات الإنسان العادي فحسب، بل فقد القطاع خير ما أنجب من مثقفيه الذين حملوا القلم للدفاع عن الوطن على طريقتهم، من رجال ونساء استشهدوا في حرب كان على العدو أن يخوضها فقصف، ونكل واعتقل وعذب دون أن يتحرك العالم أو يقول العرب كلمتهم نصرة للإنسان بعيدا عن ما يمليه واجب وحدة الدين واللغة والانتماء.

غزة وهي تعد خسائرها كل يوم من صغار كهول ومسنين، لم تهمل ما تكبدته ثقافتها وأبداعها من خسائر. فهناك تم قتل الشعر، والنثر و الموسيقى، وتم تدمير  تراث يستنطق حقبات من الزمن وعمق حضارات شتى، من مساجد وكنائس ومعالم تختزل عصور وثقافات وأجناس، لأن غزة بنيت للحب والسلام وإن لم تذق يوما السلام ، كما قال عنها أبناؤها.

إن كان لأحد أن يتحدث عن تفاصيل الأحداث فيروي عن الشاعرة والروائية هبة أبو الندي. هذه اللاجئة المهجرة من قرية « بيت جرجا » التي دمرها الاحتلال في عام 1948، فكانت النكبة بصمة بالولادة حملها هذا الصوت الذي خدم القافية والخيال الأدبي، قبل أن تكرمها الشارقة بحصولها علي المركز الثاني  في الدورة العشرين لمسابقة الشارقة للإبداع العربي  عن روايتها «الأوكسجين ليس للموتى».

كتبت هبة عن الإنسان وكانت لها تطلعات وطموحات لكن من عاش في غزة يدرك أن الطموح مرشح للبتر في أية لحظة، لترتقي شهيدة تحت قصف الاحتلال بمنطقة الزهراء يوم 20  أكتوبر الماضي.

هبة سقت وطنها بدمها، وتركت وصية تقول فيها «إن متنا قولوا بالنيابة عنا: كان هنا أناس يحلمون بالسفر والحب والحياة وأشياء أخرى.»

وصية أخرى تركها ابن حي الشجاعية، الشاعر رفعت العرعير، صاحب دكتوراه في اللغة الإنجليزية من جامعة « بوتوا » بماليزيا عام 2017، والرجل قدم كثيرا في الترجمة ودرست أجيال عنده بالجامعة الإسلامية في غزة حيث كان أستاذا في الأدب العالمي منذ 2007، قبل أن يرتقي شهيدا في 7 ديسمبر الماضي.

هذا الرجل بما صنع، وأنجز وأعطى تذكرته الصحف العربية والغربية بالقصيدة-الوصية التي كتبها بالإنجليزية أياما فقط قبل أن يقضي نحبه، ولعل أهم ما قال فيها : «إذا كان لا بدّ أن أموت/ ‏فلا بد أن تعيش أنت /‏لتروي حكايتي ..‏لتبيع أشيائي/ ‏وتشتري قطعة قماش ..‏وخيوطاً (فلتكن بيضاء وبذيلٍ طويل) / ‏كي يُبصر طفلٌ في مكان ما من غزّة / ‏وهو يحدّق في السماء/ منتظراً أباه الذي رحل فجأة / دون أن يودّع أحداً/ ولا حتى لحمه ‏أو ذاته»

حلقت القصيدة-الوصية وطارت عبر العالم كله ورددته الألسنة بشتى اللغات حاملة جاكية ومأساة شعب، لعل أرواح الشهداء تتحول لطائرات ورقية ملونة تسعد أطفال غزة أو من بقى منهم علي الأقل.

هبة، رفعت ورسامون، وشعراء وغيرهم من رجال الثقافة كتبوا القصيدة الأخيرة وخططت أناملهم اللوحة الأخيرة.. يشتركون في الوفاء لغزة لحد الشهادة وكلهم يرفضون أن يكونوا مجرد أرقام ولعل أقسى قصف لهم هو نسيانهم بعد أن غابوا وتركوا من كتابات ما يؤرخ لتلك الحياة التي نسجوا فيها أحلام كثيرة.

وإذا كان على المثقف العربي أن يتمرد -لعلنا نقتنع بأعذار حين يتعلق الأمر بالمثقف الغربي إن سكت، لنقول التزم بعقيدة بلده- فالوقت قد حان لأن مثيله في عزة يدفع ضريبة نظير بقائه لينتصر حبره أو يرتقي شهيدا في عالم لا يكترث لدمه الطاهر وقضيته المشروعة.

أمام ما يحدث لا ينفع الكلام البارد والكتابة المحايدة، ومن مسؤولية المثقف العربي مطالبة حكومته أن لا ينصرف عن الانشغال بقضية شعب يدافع عن شرف العرب، ومن واجبه مناشدة المثقف الغربي، صاحب الضمير اليقظ -إن وجد- والفكر النيّر ليدين الجلاد ويقف إلى جانب الضحية و يخرج من ازدواجية الرؤية، ومن مسؤولية المثقف العربي أن يطالب بكبح سرعة قطار التطبيع وبيع فلسطين بخدمة المصالح، ورفض تغييبها على ما بات يسميه حلفاء الاحتلال حلم «الشرق الأوسط الجديد». 

فلسطين وغزة ليست ملحقا ثقافيا يتم إدراجه أو يُلتفت إليه في المهرجانات والمناسبات.. كما كانت في مهرجان الرياض وتحجج المنظمون بالقول «الحياة تستمر». في الحياة أحزان يستحق المرء الوقوف أمامها احتراما للإنسان، وبكل لغة وفي كل دين ومهما يكون البلد والقناعات، كل شكل يهان أمام كرامة إنسان.

الصمت تواطؤ وانحياز والتردد والارتباك في نصرة فلسطين خذلان بل هكذا وصفه حتى مثقفو غزة -الشهداء منهم والمصرعون على البقاء حاليا- وإن كنا نعتقد أن لا أحد يقف ضد الحق الفلسطيني كمبدأ، فغزة تقول لكل مثقف عربي: إن كلمتك أفضل فلا تصمت.