أزمة الرقابة الدستورية في الجزائر

أثار هذه الأيام جدل حول قرار المجلس الدستوري بالموافقة على الأمر المعدل للأمر المتعلق بنظام الانتخابات، والسبب في ذلك أن المادة 142/6 من دستور 2020م تنص على أن« تتخذ الأوامر في مجلس الوزراء». وبالرجوع إلى قرار المجلس الدستوري (الجريدة الرسمية العدد 30)، نجده قد صرح« أن الأمر موضوع الإخطار تم عرضه على مجلس الوزراء المنعقد بتاريخ 18 أبريل 2021م».
ولكن بالعودة إلى الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية الجزائرية على الفايسبوك، وبتاريخ 18 أبريل الماضي، وهو تاريخ انعقاد مجلس الوزراء المشار إليه في قرار المجلس الدستوري، لا نجد أية إشارة إلى تناول تعديل قانون الانتخابات، وهنا نحن أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما أنه تم فعلا بحث مشروع أمر بتعديل الأمر المتعلق بنظام الانتخابات، وتقرر عدم الإعلان عنه للجمهور ريثما يقرر المجلس الدستوري ما يراه بشأنه؟ وإذا تم هذا، فإنه تم احترام أحكام الدستور، وخصوصا المادة 142 منه. والاحتمال الثاني أن اجتماع مجلس الوزراء بالتاريخ المشار إليه أعلاه لم يبحث ولم يتناول مشروع تعديل نظام الانتخابات، ومن ثم فإن قرار المجلس الدستوري صدر باطلا، وأن كل ما تضمنه قرار الأخير بشأن تعديل الأمر المتعلق بنظام الانتخابات باطل أيضا، للخرق الصريح والمباشر للمادة 142 من الدستور. وليس لدينا ما يرجح أحد الاحتمالين على الآخر.
ونحن نتناول هذه الواقعة لأننا رصدنا سابقة مشابهة لها حدثت في صيف سنة 2007، بما عرف يومها إعلاميا بأزمة بطاطا الخنازير، حيث جرى استيرادها من بلد أجنبي، فوقعت أزمة البطاطا، ولمواجهتها قام رئيس الجمهورية آنذاك المخلوع، عبد العزيز بوتفليقة، بإصدار الأمر رقم: 07-04 المؤرخ في 19 غشت سنة 2007 يتعلق بإعفاء مؤقت لعمليات استيراد البطاطا الطازجة أو المبردة، والموجه للاستهلاك، من الحقوق الجمركية، ومن الرسم على القيمة المضافة (ونشر في الجريدة الرسمية العدد52 لسنة 2007م).
غير أن رئيس الجمهورية في ذلك الوقت، وفي هذه الواقعة تحديدا، لم يحترم الدستور، وهو أصلا لم يكن يحترمه، حيث خالفه في المادة 124 من دستور 1996م، التي تتضمن أحكام الأوامر، حيث إن رئيس الجمهورية اتخذ الأمر المذكور أعلاه دون اجتماع مجلس الوزراء، وهو ما يشكل اعتداء عنيفا جدا ضد نص صريح في الدستور يشترط «اتخاذ الأوامر في مجلس الوزراء»، بدليل أن مستشار الرئيس في ذلك الوقت، سعيد بوشعير، الذي كان قبلها رئيسا للمجلس الدستوري، بين مارس 1995 إلى مارس 2002م، أشار على الرئيس بوتفليقة بأنه اعتدى الدستور وخرقه خرقا جسيما، كما يذكر ذلك في أحد مقالاته التي اطلعنا عليها، إلا أن رئيس الجمهورية الحامي للدستور لم يبد أي اهتمام بالأمر. وواضح أن خرق الدستور عند بوتفليقة كان رياضة يومية ودائمة، ولعلنا نعود لهذا الموضوع يوما ما لتفصيله أكثر.
إنما الذي يهمنا دائما أن مؤسسة دستورية رقابية في مكانة ومنزلة المجلس الدستوري لا يجوز أن يرقى إليها الشك أبدا، انه يجب دائما أن تكون مؤسسة فوق الشبهات، و ولا يجوز توفير ظروف وأسباب بالمجان لتوجيه أصابع الاتهام بخرق الدستور. نعم إنه من المحتمل جدا أن تخرق المؤسسات الدستورية الأخرى، غير المجلس الدستوري، الدستور بشكل من الأشكال، لأسباب كثيرة بعضها فني قانوني، وبعضها سياسي، إنما لا يجوز أن يكون هذا الخرق صادرا من المجلس الدستوري.
أن الأزمة التي يعاني منها المجلس الدستوري الجزائري، والرقابة الدستورية في الجزائر بشكل عام، هو أنه مؤسسة وظيفية بالمفهوم الذي كان يسود دستور 1976، حيث تم تكريس مبدأ وحدة السلطة الذي يقضي بجمع كل الهيئات الدستورية بيد سلطة واحدة، أو قل بيد الشخص الواحد، فكنا نقرأ : الوظيفة التنفيذية؛ والوظيفة التشريعية؛ والوظيفة القضائية؛ و الوظيفية الرقابية، فساد منطق الوظيفية، لا منطق السلطة والرقابة، ونحن نعتقد أن المنطق الذي كان يحكم دستور 1976 لا يزال سائدا إلى اليوم، بشكل من الأشكال، من حيث عدم تجديد الثقافة السياسية الراشدة الدولتية، لا السلطوية العصبوية، التي تحكم وتطبق الدستور. والمطلوب أن يتحول المجلس الدستوري إلى مؤسسة رقابية حقيقية على جميع السلطات دون استثناء. مؤسسة لا تعتنق سوى أحكام الدستور ومصالح الدولة الجزائرية، ومصالح الأمة الجزائرية في تاريخها المجيد، وحاضرها المشهود، ومستقبلها الواعد، الأموات والأحياء والأجيال القادمة، وليس مصالح الحكام ومن بيدهم الأمر والنهي.
لا أحد ينكر التطورات الهائلة للرقابة الدستورية في الجزائر، فبعد أن كانت مجرد حبر على ورق في دستور 1963، ومعدومة في دستور 1976، فقد شهدت ميلادها الحقيقي منذ دستور 1989م، وتفعيلها عمليا في مارس 1989م، والتطورات المتلاحقة في دستور 1996، فدستور 2016، وتتويجها بدستور 2020م، الذي دشن مرحلة جديدة في التطور الدستوري في الجزائر، حيث جعلها رقابة قضائية عن طريق محكمة دستورية، وبالتالي نزع عن أعضائها، وعن طبيعتها كمحكمة، الطابع السياسي، حيث يجب أن يتوافر في أعضائها عدم الانتماء الحزبي، وأن الإجراءات أمامها هي إجراءات قضائية وليست إجراءات إدارية. وبالتالي هناك ضمانات أوفى وأفضل من الرقابة السياسية عن طريق المجلس الدستوري.
إنها مسيرة عملية عمرها 32 سنة، أنها مسيرة قصيرة بلا شك، تحتاج إلى عشرات السنين لترشيدها، وتقوية عضدها وتعميقها في بناء الدولة، دولة المؤسسات لا دولة الحكام والعائلة والعصابة. وهي مسؤولية الجميع، نخبة سياسية؛ ونخبة اجتماعية؛ ومثقفين وأساتذة الجامعات، إلا أنها مسؤولية أعضاء المجلس الدستوري حاليا، والمحكمة الدستورية قريبا، ومسؤولية الحكام أعظم وأخطر.
إذا كان الدستور هو مجرد وثيقة مكتوبة، جامدة، ساكنة، غير ناطقة، فإن المجلس الدستوري هو الدستور الناطق المتحرك، فهلا أدرك ذلك؟
بقلم الدكتور أحمد رباج
جامعة الجزائر1
fakooper@gmail.com
تعليقات 0