الإعلام في الجزائر .. حديث في الموضوعية والحريات

الغد الجزائري–إن الحديث في حرية الإعلام والموضوعية وأدوار وسائل الإعلام باختلافها يستدعي شيئا من الواقعية في الطرح وتفعيل أدوات التحليل والنقد المبنية على التفريق بين التنظير والممارسة، وتشريح تجارب الدول العريقة في الممارسة الإعلامية ومقارنتها بتجربة الجزائر وباقي تجارب دول العالم المتأخر عن ركب التطور، مع ضرورة وضع كل تجربة في السياق العام الذي نشأت فيه ومحاولة تقييمها ونقدها انطلاقا من السياقات الفرعية التي تتحكم في جزء منها أو في جلها أو في كلها، على غرار السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مرورا بالوضعية الخاصة بكل مؤسسة إعلامية من ملكية وتمويل وإشهار ومصلحية والتي تتحكم بدروها في السياسة التحريرية ومسألة الرقابة التي يتبناها حارس البوابة، ذاتية كانت أو مهنية أو خارجية، وصولا إلى مبدأ استقلالية الوسيلة الإعلامية التي لا تعني في أي حال من أحوال الموضوعية، هذه الأخيرة التي تبقى محل تجاذب بين موضوعية مطلقة يُنَظِّر لها الباحثون وموضوعية نسبية تفرزها الممارسة اليومية للعمل الصحافي، وهي النقاط التي سأحاول الربط بينها في هذا المقال، رغم يقيني بفشل هذه المحاولة مسبقا.
الموضوعية النسبية .. هل الجزائر استثناء؟
انطلقت من مسألة الموضوعية في محاولة فهم واقع الممارسة الإعلامية في الجزائر لأنها مفهوم مرن يأخذ شكل القالب الذي يوضع فيه، فالجزم بإلزامية تقيد وسائل الإعلام بالموضوعية المطلقة أمر مثالي وفيه من المبالغة العلمية والأدبية ما يجعل المهنة الصحافية تُنَزَّلُ منزلة “التقية” أو “القداسة”، والقول بهذا القول ليس محاولة لتبرير وضعية الإعلام في الجزائر وإنما هو استقراء لواقع موجود في جميع دول العالم دون استثناء، مع حفظ التفاوت الموجود، ما يقودنا للحديث عن موضوعية نسبية قد تكون بنسبة واحد من المائة وتصل إلى تسعة وتسعين من المائة، حسب الخط الافتتاحي للمؤسسة ومجال الحدث وجغرافيته وخلفياته وملكيتها وتمويلها وكثير من العوامل المتشابكة فيما بينها، فيمكن لصحيفة أو قناة جزائرية أن تتناول حدثا في جيبوتي بموضوعية مطلقة، بالنظر إلى عدم وجود مصلحة مؤسساتية أو حكومية أو شخصية، إضافة إلى جغرافية الحدث الذي لا يمثل أي رمزية بالنسبة للجمهور الجزائري وحتى مسألة التاريخ، لكن لا يمكن لنفس المؤسسة الإعلامية الجزائرية أن تلامس سقف الموضوعية المطلقة عندما تتناول حدثا فرنسيا، بالنظر إلى اختلاف السياقين، فتناول الأحداث في فرنسا يجب أن ا يفصل عن سياق عام، تتدخل فيه عوامل التاريخ ومواقف السياسة الخارجية الجزائرية والعلاقات التجارية والاقتصادية، بل حتى عامل الجالية الموجودة على التراب الفرنسي قد يؤثر في التناول الصحافي لأي حدث في فرنسا، على سبيل المثال لا الحصر، وقس على ذلك ما تعلق بالقضيتين الفلسطينية والصحراوية والوضع في ليبيا ومالي وغيرها من الدول التي تحمل من الرمزية التاريخية والدبلوماسية والمصلحية التي تجعل الصحافي في أحايين كثيرة يبتعد عن الطرح الموضوعي.
كما أن التعاطي مع الأحداث الوطنية خاصة السياسية منها عادة ما يعرض المؤسسات الإعلامية للنقد اللاذع الذي يصل أحيانا إلى حد التخوين والعمالة، من طرف الجمهور ومختلف الفعاليات الأخرى سياسية كانت أو مجتمعية، وهو نقد مبرر في بعض الأحيان وفيه شيئ من المثالية ورفض التعامل مع الواقع كما هو، في أحيان أخرى، كأن أن نطالب بصحافة حرة تماما في حين نفتقد لديمقراطية حقيقية، أو أن نطالب صحيفة أو قناة بالحياد التام والموضوعية المطلقة ونغفل مصالح مالكيها والمعلنين فيها وقضية الإشهار العمومي وتدخل النظام السياسي في توجيه الإعلام وتأثيره على مسألة الرقابة، وهنا وجب التأكيد على أن هذا الوضع ليس استثناءً أو بدعة جزائرية، بل هو واقع عام بالتفاوت الموجود، إذ من سابع المستحيلات أن نجد مؤسسة إعلامية محايدة وموضوعية في العالم، انطلاقا من بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وصولا إلى أفقر دولة، وهو أمر طبيعي مرتبط بمالك المؤسسة الذي يصرف ملايين وربما ملايير الدولارات بحثا عن مصالح ومكاسب إما سياسية أو مالية أو اقتصادية أو إيديولوجية، مع الحفاظ على الحد الأدنى من تقاليد وأخلاقيات الممارسة الإعلامية.
أي فرق بين الاحترافية والموضوعية؟
هناك من العارفين ومن عامة الجمهور من يخلط، متعمدا أو جاهلا، بين مفهومي الاحترافية والموضوعية، فأن تكون صحافيا محترفا أو مؤسسة محترفة لا يعني بالضرورة أن تلتزم بالموضوعية المطلقة، بإرادتك أو بتدخل عوامل أخرى، فالاحترافية في العمل الصحافي تعني إجمالا أن توفر جميع الظروف المناسبة من عتاد وأجهزة وتكوين مستمر ودورات تدريبية وأن تكون ناقلا للأخبار والأحداث وموجودا في كل زمان ومكان، أما الموضوعية المطلقة فهي أن تنقل الخبر بصدق دون تحريف أو تشويه أو تزوير وأن توازن في تحليل ما بعد الخبر، بين جميع الأطراف المتدخلين في الحدث مساحة وزمنا وحضورا، وأن تقاوم جميع الإكراهات التي يفرضها النظام السياسي والملاك والمعلنون.
وانطلاقا من هذا التوصيف العابر لمدلولات الاحترافية والموضوعية، تجدر الإشارة إلى مثال ماثل أمام الجميع، فالحديث عن احترافية شبكة الجزيرة القطرية لا يختلف فيه إثنان، فهي توظف آلاف الأشخاص من جنسيات مختلفة، وتملك مراسلين في أغلب دول العالم، وتتفرع إلى قنوات عديدة إخبارية ووثائقية ورياضية وغيرها، وتملك مراكز تدريب ودراسات وأستوديوهات وأجهزة وعتاد بأحدث التكنولوجيات، وتترصد الأخبار لحظة بلحظة، لكن كل هذه الاحترافية لا تنصبها على عرش الموضوعية، فقد ظهر انحيازها جليا لإيديولوجيا معينة في أكثرَ من حدث عبر العالم، خصوصا في الوطن العربي، على غرار مصر واليمن وسوريا والخليج، ولا تكاد تنقل خبرا واحدا عما يحدث في دولة قطر وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى التمويل والمصالح، وقس على ذلك مع باقي القنوات كفرانس 24 وروسيا اليوم وبي بي سي و CNN و غيرها.
علاقة الجمهور الوفي والمناضل بالحريات والإيديولوجيات
إن المتابع لارتباك العلاقة بين الجمهور ووسائل الإعلام، خصوصا في الفترة الأخيرة في الجزائر، يكتشف أن هناك من يحاول تغليط الجمهور العام وجره إلى الاعتقاد أن جميع المؤسسات الإعلامية مطالبة بتبني رؤيته المثالية للحريات، كأن نحاول إيهام الجمهور العام بأن الإعلام الحكومي يجب أن ينتقد سياسات الحكام ويفسح المجال أمام المعارضين وهو ما لا يحدث حتى في الإعلام الحكومي في دول متطورة مع حفظ بعض الاستثناءات، بالنظر إلى ارتباطه بالترويج للسياسات العامة وخدمة الأنظمة الحاكمة، مع محاولة الخلط بين مفهوم الخدمة العمومية والموضوعية المطلقة، أو أن نطالب بفتح النقاشات الإيديولوجية باختلافها في مجتمع لم يتمكن بعد من تجاوز عقدة الاختلاف، خصوصا ما تعلق بالدين والهوية والجنس والمرأة.
وبالتالي فإن رؤية وتصور أي فرد أو جماعة ليست إلزامية بالنسبة لجميع وسائل الإعلام، لهذا نجد الصحافة الحكومية والمستقلة والحزبية، ووراءها إما مؤسسة دولة أو رجل أعمال أو مستثمر أو صحافي أو حزب مع أو ضد النظام القائم، وكل هؤلاء يعبرون في النهاية عن جزء من تطلعات شريحة معينة من الجماهير وفي الجزء المتبقي يحافظون على مصالحهم أو مصالح جماعة أو مؤسسة بعينها، لهذا نجد المؤسسات الإعلامية في الغرب عموما وفية لمبادئها ومصالحها الإيديولوجية خصوصا، يمينية كانت أم يسارية أم وسطا، ما يقودنا للحدث عن الجمهور الوفي والمناضل، فلا يمكن لقاريء يميني أن ينتقد تعاطي صحيفة يسارية مع تصريحات زعيمة الجبهة الوطنية في فرنسا، مارين لوبان، لأنه يدرك تماما السياسة التحريرية لهذه الجريدة، وبالتالي هو يقرأ صحيفة يمينية لأنه يبحث في النهاية عن إشباع رغباته، والاستقلالية في الصحافة أن تنشر ما تشاء مع التزام أخلاقي ومجتمعي وقانوني لضمان الحد الأدنى من المهنية، لكن لا يعني أبدا إلزامية أن تروج الصحيفة اليمينية لأفكار اليسار أو العكس، باسم الموضوعية وضمان فرص تكافؤ الظهور، فمالك المؤسسة الإعلامية والصحافي والمصور والمخرج وغيرهم من الممارسين حاملون لأفكار ويناضلون لصالح إيديولوجية معينة، قد تكون دينية أو فكرية أو سياسية أو مجتمعية، وتحميلهم أكثر من طاقاتهم باسم الموضوعية وأخلاقيات المهنة ضرب من ضروب الغلو والتنطع لصعوبة تحقيق المثالية المرجوة، لهذا يجب تشجيع الجمهور الوفي الذي يتلقى الرسائل التي يرغب في تلقيها لإشباع رغباته، وهنا يبرز الدور الذي يجب أن تلعبه الأحزاب السياسية وفعاليات المجتمع المدني في التأسيس لكيانات مكتملة الأركان، يكون فيها الإعلام ركنا متينا لمن أراد أن يقارع ويقاوم ويحافظ على وجوده وسط هذه الفوضى المنظمة.
بقلم: محمد أمزيان برغل/ صحافي وأستاذ جامعي mohammed.bergheul@gmail.com
تعليقات 0