الدستور والأجيال القادمة والاستشراف

ليس من وظيفة الدولة، ولا من مهام أي نظام سياسي أن يهتم بالراهن واليومي فقط من القضايا المتعددة و الوظائف المختلفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية والعسكرية، ويغرق في حل ومواجهة المشاكل الآنية الحاضرة التي يعيشها الشعب، بل إن من واجب الدولة الناجحة، وأي نظام سياسي رشيد، أن يخطط للمستقبل ويستشرف الآفاق البعيدة والمتوسطة، ويعد العدة لكل السيناريوهات التي يمكن أن تحدث ويحتمل ويتوقع أن تواجه الدولة.

إن الدولة الناجحة هي التي لها فكرة ومشروع استراتيجي تعمل على تحقيقه في المستقبل، وهدف أعلى وسام تتطلع إلى تحصيله وتنفيذه، وطموح عبقري، وآمال عريضة تستهدف اقتناصها على سلم المجد، على جميع الأصعدة، وعلى كل المستويات، والعكس صحيح. والواقع والتاريخ خير شاهد على ذلك، وما مثال تركيا والصين عنا ببعيد.

وفي القانون الدستوري المقارن ثمة ما يشير إلى هذا المعنى، وهو حقوق الأجيال القادمة، وهو مصطلح دستوري وحقوقي، وسياسي كذلك، لم يستقر له وجود إلا في بداية سبعينيات القرن الماضي، مفاده أن الدولة لا يجوز لها أن تنشغل بالحاضر ومصالح أفراد الشعب الأحياء فقط، وإنما يجب أن تنصرف كذلك وتخطط وتستشرف إلى خدمة أفراد الشعب المستقبلي الذي سيوجد لاحقا. إذن حقوق الأجيال القادمة معناه ضمان الدولة لحقوق الأفراد الذين سيلدون في المستقبل البعيد والمتوسط.

و حقوق الأجيال القادمة الشائعة ثلاثة أولها الحفاظ على الثروات الطبيعية، من البترول والماء وكل مورد طبيعي حيوي، فلا يجوز استنزافها بشكل يضر بالمصالح الأساسية للأحياء مستقبلا، وإنما لابد من العقلانية والعدالة في الاستفادة منها. وثانيها الحق في بيئة سليمة، وهذا معناه عدم جواز استغلال البيئة استغلالا يضر بجوهر حقوق الأجيال القادمة، وذلك اعتبارا أن البيئة هي حق جماعي و زماني لجميع الأجيال، السابقة و الحاضرة و القادمة. وهذا ما يثير قضايا الاحتباس الحراري، والوقود الأحفوري بالنسبة للعالم، وخصوصا الغاز الصخري بالنسبة للجزائر. ثالثها الحق في التنمية المستدامة، وهو الحق الذي يقصد به تجسير التنمية بين الأجيال الحاضر والأجيال القادمة، إذ التنمية ليست لرقعة جغرافية محدودة، ولا لفترة زمنية مقصورة، وإنما هي لكل الناس، ولكل الأزمنة، وحتى المستقبل البعيد.

وعلى الرغم من أهمية حقوق الأجيال القادمة إلا أن المؤسس الدستوري الجزائري لم يتبناها إلا في دستور 1989 و 1996 و 2016 و 2020 إلا في شكل قيم معيارية دون التنصيص على آليات وأدوات وأجهزة محددة. فقد جاء في الفقرة الأخيرة من الديباجة من دستور 1989م و1996م : «وفخر الشعب، وتضحياته، وإحساسه بالمسؤوليات، وتمسكه العريق بالحرية، والعدالة الاجتماعية، تمثل كلها أحسن ضمان لاحترام مبادئ هذا الدستور الذي يصادق عليه وينقله إلى الأجيال القادمة ورثة رواد الـحرية، وبناة المجتمع الحر».

أما دستور 2016 فقد صرح بها في الديباجة، وفي المادة 19 بالقول:« ‬ تضمن الدولة الاستعمال الرشيد للموارد الطبيعية والحفاظ عليها لصالح الأجيال القادمة‮».‬

والأمر ذاته في ديباجة دستور 2020 حيث تكررت عبارة الأجيال القادمة ثلاث مرات، حيث : « يظل الشعب منشغلا بتدهور البيئة والنتائج السلبية للتغير المناخي، وحريصا على ضمان حماية الوسط الطبيعي والاستعمال العقلاني للموارد الطبيعية …لصالح الأجيال القادمة.

واعترافا بالطاقة الهائلة التي يشكلها الشباب الجزائري، وبتطلعاته وإصراره على رفع التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد، أصبح من الضروري إشراكه الفعلي في عملية البناء والمحافظة على مصالح الأجيال القادمة،…». حيث لم يطرأ تغيير جوهري عميق.

والذي ينقص هنا هو عدم وجود هيئة دستورية تختص بحقوق الأجيال القادمة، يناط بها التدخل في كل ما يتعلق بهذه الحقوق، سواء على مستوى التشريعات، أو مستوى المشاريع التنموية المختلفة السياسية والاقتصادية الصناعية والزراعية والثقافية، من خلال أشراكها في اتخاذ القرار بشأنها عن طريق تقديم أراء استشارية وتوصيات. ومن هنا يمكن القول إن دستور 2020 كان دون الطموحات العريضة، في خصوص هذه النقطة.

والجزائر يبدو لنا أنها متخلفة عن محيطها في خصوص هذه المسألة الحيوية، فعلى سبيل المثال الجارة تونس وفي دستور 2014 تم دسترة ضمن القسم الرابع، من الباب السادس المتعلق بالهيئات الدستورية، «هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة»، حيث نص الفصل 129 من الدستور أن هذه الهيئة تستشار وجوبا في مشاريع القوانين المتعلقة بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية و في مخططات التنمية. وللهيئة أن تبدي رأيها في المسائل المتصلة بمجال اختصاصها. ثم إن هذه الهيئة، من أجل فاعليتها واستقلاليتها، تتكون من أعضاء من ذوي الكفاءة و النزاهة، يباشرون مهامهم لفترة واحدة مدتها ست سنوات. والأكثر من ذلك أن الفصل 125 الذي يحكم جميع الهيئات الدستورية الواردة في الباب السادس، نص على أن هذه الهيئة تتمتع بالشخصية القانونية والاستقلالية المالية والإدارية. وأن أعضاءها يتم انتخابهم من قبل نواب مجلس الشعب بأغلبية معززة، وترفع أليه تقريرا سنويا يناقش في جلسة عامة تخصص للغرض.

أما الاستشراف، وهو كل اجتهاد استطلاعي علمي دقيق للمستقبل بكل وعوده ومواعيده، فإنه على الرغم من أهميته القصوى في تأمين المستقبل من جميع الجوانب، إلا أن الدساتير الجزائرية وردت خالية منه، باستثناء دستور 2020، حيث تم النص لأول مرة على فكرة «الاستشراف » في المادة 209 من الدستور على جعل المجلس الوطني والاقتصادي والاجتماعي والبيئي إطارا للاستشراف.

إن الاستشراف و التخطيط للمستقبل وللغد الأفضل ليس فقط طموح مشروع، و إنما هو أكثر من ذلك بكثير، إنه التزام و واجب دستوري يقع على عاتق أجهزة الدولة، وبالأخص السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. فماذا أعددنا في الواقع للأجيال القادمة في إطار الاستشراف للمسقبل؟

بقلم الدكتور أحمد رباج
جامعة الجزائر1
fakooper@gmail.com