“نعمل على تثبيت الموسيقى بطرق أكاديمية حتى لا تندثر ونعتز بها في الخارج”
المدير العام لـ أوبرا الجزائر الأستاذ عبد القادر بوعزارة لـ "الغد الجزائري":

- “كل التقدير لرئيس الجمهورية الذي جعلنا نتحدث بكلمتين: العلم والمعرفة”
- “أوبرا الجزائر واجهة لثقافتنا وكل متعامل اقتصادي مدعو لمرافقة جهودها”
- “فنزويلا ضيف شرف المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية هذا العام”
- “الكتابة صون وحماية لتراثنا المتنوع”
ثمّن المدير العام لدار أوبرا الجزائر “بوعلام بسايح“، الأستاذ عبد القادر بوعزارة، الديناميكية التي يشهدها هذا الحصن الثقافي٫ الذي يلح على ضرورة مساهمته في تثمين التراث الثري والمتنوع للجزائر مع جعله واجهة مشرقة لا تخشى التفتح والاحتكاك بالثقافات الأخرى، بما يعزز الإبداع ويُكسب التجارب، دون إهمال الجانب التكويني لصقل المواهب وإعداد أجيال تدرك معنى وقيمة الموسيقى والرسالة النبيلة للفن، ودعا المبدع الذي كرمته اليابان بوسام الشمس المشرقة “رايون دور“ إلى ضرورة تدوين ما تزخر به بلادنا من تراث فني وثقافي صونا له وحماية من أي سطو أو زيف، كما كشف عن الموعد العالمي الكبير الذي تنتظره “أوبرا الجزائر” من 17إلى23 أفريل القادم، بتنظيم الطبعة 14 من المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية، حيث ستكون فنزويلا ضيف شرف، مؤكدا أن الجهور سيكون العامل الرئيس في نجاح الحدث بحضوره القوي للاستمتاع بإبداع موسيقيين مميزين.
بهدوئه ورزانته التي تخفي احترافية وتفان مثاليين.. وفي صورة القامة التي لا تكل ولا تمل ولم تبخل بعطائها منذ سنين، تحدث المدير العام لـ “أوبرا الجزائر” لجريدة “الغد الجزائري” بنظرة المثقف المدرك لأهمية تثمين الفن والموسيقى في هذا الوطن والاستثمار في الجيل الصاعد وطاقاته للمضي قدما. من المسؤوليات التي تقلدها، تبقى الموسيقى القاسم المشترك.. كيف لا؟ وهي تسري في عروقه.. درسها ودرّسها وفي ذلك الوفاء يظل الأهم أن الرجل سخي في عطائه وقدوة في وطنيته وإخلاصه للعمل، وبعبقرية يشهد لها القريب والبعيد، من مدير الأوركسترا السيمفونية الوطنية، إلى تسيير المعهد الوطني العالي للموسيقى، ومحافظا للمهرجان الثقافي الدولي للموسيقى السيمفونية، ثم مديرا لأوبرا الجزائر..
التقينا بالأستاذ-القامة عبد القادر بوعزارة فكان لنا معه الحوار التالي:
أستاذنا بوعزارة. توليتم إدارة حصن ثقافي بحجم “أوبرا الجزائر” ونعرف جيدا اعتباركم المسؤولية تكليف وليس تشريف.. ما تقييمكم لما قمتم به طيلة السنة الماضية؟
سبقت بالقول “المسؤولية تكليف وليس تشريف”.. الشيء الجميل في هذا العمل أنني أعشق بصدق وأعمل بصدق من أجل بلدي، ومن أجل أن تكون واحدة من البلدان الراقية في هذا المجال الحيوي لأننا نعلم أن الثقافة هي كل ما يبقى راسخا في ذاكرة الإنسان عندما ينسى كل شيء. اليوم، وبعد أن استمعنا مؤخرا لكلمة وخطاب السيد رئيس الجمهورية في الجلسات الوطنية للسينما، حيث تطرق إلى نقطة هامة تتمثل في الموسيقي والموسيقى العلمية الأكاديمية، الموسيقى الكلاسيكية، وخاصة التكوين. فكيف لنا اليوم أن نحافظ على تراثنا الأكاديمي الفني والموسيقى لولا كتابته وتدوينه وتسجيله حتى يبقى للأجيال، خاصة وأننا نحن اليوم نعلم بأن هناك معاهد عليا متخصصة. لماذا التخصص؟ لأننا نريد تثبيت الموسيقى بطريقة علمية وأكاديمية حتى لا تندثر، ومن ثمة طلبتنا الذين يحضرون الماستر والدكتوراه في هذا المجال، فهنيئا لبناتنا وأبنائنا، بعد تدشين ثانوية الفنون والأن أصبح لنا منذ العام 2023 بكالوريا للفنون. فمن خلال هذه الأمور الراقية جدا، وبالخصوص القانون الأساسي للفنان، وعديد من الأمور الجدية، فتحية تقدير وإجلال للسيد رئيس الجمهورية الذي أعطى لنا فرصة اليوم لكي نتحدث بهما اليوم بكلمتين لا ثالثة لهما وهما: العلم والمعرفة. لكم أن تتصوروا لتكوين عازف للكمان -لأنني أستاذ موسيقى مختص في تدريس الكمان- أسخر وقتا يدوم قرابة ست وحتى عشر سنوات دراسات معمقة حتى يلم الطالب بكل الثقافة المتعلقة بهذه الآلة بموسيقاها وتراثنا.
وعليه في هذا الصرح الثقافي المتميز، نحاول تطبيق ما قاله رئيس الجمهورية إنه لا بد علينا الانفتاح على الثقافات العالمية الأخرى، وها هو اليوم اعتزازنا بتنظيم أحد أكبر المهرجانات في بلدنا وباتت له شهرة وصيت عالميا، وباتت الجزائر قبلة الموسيقيين العالميين المحترفين سواء في الموسيقى السيمفونية، الكلاسيكية وخاصة في الغناء الأوبرالي، خاصة أننا لا ننسى جذورنا حين كان زرياب من مؤسسي أولى مدارس هذا النوع الغنائي ولم تسمع به آنذاك أوروبا، وبعد سبعة قرون يعبر للقارة العجوز ، وبالتحديد إلى إيطاليا بما بات يعرف باسم “لوبال كانتو” -الغناء الجميل- و”لوبيون كانتو” -الغناء المتقن- لنستنبط من هذا المنبع الكبير والمدارس العريقة في وقتنا بالحفاظ على تراثنا بطريقة علمية أكاديمية.
بالعودة لتقييم حصيلة هذا الصرح الثقافي، فمنذ تأسيسه عام 2016، بالإمكان القول إن العام الماضي كان ثريا من حيث البرنامج، والطبوع والألوان الموسيقية الجزائرية التي منحنا للجمهور المتعطش فرص الاستمتاع بها الذي حضر بقوة، ووصلنا إلى 50 ألف زائر في سنة، ومنهم عائلات التي تقصد حصن يحمل اسم قامة أدبية ورمز وهو بوعلام بسايح.
السنة الماضية شهدت تنظيم مهرجانين دوليين، مهرجان الموسيقى السيمفونية في طبعته ال 13 والمهرجان الدولي للرقص المعاصر، ولا ننسى حفل “سلام لفلسطين” الذي يرمز لتعلق وتضامن الفنان الجزائري مع القضية الفلسطينية، إلى جانب فعاليات بالتزامن مع الذكرى السبعين لاندلاع الثورة المجيدة بالتعاون مع وزارة المجاهدين، علي غرار عرض “قبلة الأحرار”، وأقف وأركز على عرض كبير وراسخ في أذهان من تابعوه في “أوبرا الجزائر” وحمل عنوان “ثمن الحرية” وهي أول أوبرا جزائرية تنظم منذ الاستقلال، احتضنها الصرح في الفاتح نوفمبر 2024، تتناول يرفع قبعة للفنانين والفنانات الذين شاركوا في هذا العمل، وهو عمل من أربعة فصول، أحدها تطرق لتاريخ نشيد “قسما”، بداية من فكرة هذا النشيد وصاحبها الشهيد عبان رمضان ذات النظرة الاستشرافية، لنبيّن دور الفنان في استعادة سيادة هذا الوطن وما قدمه من أجل انتزاع الحرية. العرض كان رائعا ولم تسع القاعة للجمهور. وختم العمل بمشاهد الاستقلال في ساعة ونصف من الإبداع الذي أبكى بعض الحضور لأن هذا النشيد له رمزية كبيرة. وهذه الديناميكية أهمية أوبرا الجزائر كوجهة للثقافة الجزائر التي تحتاج التفاف الجميع من المؤسسات الرسمية، أو المتعاملين الاقتصاديين والجمهور.
الجمهور تعوّد أن يحتضن هذا الحصن سنويا، المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية.. هل بإمكانكم تقديمنا ولو القليل مما سيتم اقتراحه للجمهور في دورة هذا العام؟
والله بات الموعد مسؤولية كبيرة على الأكتاف، خصوصا بعد ما استمعنا لما قاله رئيس الجمهورية في خطاب 19 جانفي الماضي. المهرجان تطور وبلغ الطبعة 14، ولكل طبعة خصوصيتها. هذا العام ننتظر فرق موسيقية من14 إلى15 دولة، وقد يصل عدد ضيوفنا إلى 500 ضيف أجنبي من موسيقيين عالميين وستكون الجزائر عاصمة الموسيقى السيمفونية العالمية، وذلك من17 إلى23 أفريل القادم وهنا أتخلى عن قبعتي لأن هنا سيبرز دور الجمهور، فهو المهرجان بحد ذاته.
دورة العام الجاري ستكون استثنائية بحضور فرق موسيقية ذات باع وصيت عالمي، من فنزويلا، من الصين، إيطاليا، والعديد من الدول الأسيوية، الإفريقية، العربية وغيرها.. وكما يقال “في الموسيقى روعة أخشاها ليقيني بإصغاء الملائكة لصداها” وهذا ما يؤكد أن الموسيقى هي لغة البشرية جمعاء. كل الأجناس تتبادل مشاعرها بها. بالمناسبة وهذا ستنفرد به جريدكم، فنزويلا ستكون ضيف شرف دورة هذا العام.
هل من تفاصيل حول البرنامج المسطر خلال شهر رمضان؟
الجزائر ليست الجزائر العاصمة فقط، وبالتالي نلتزم دوما وحريصون أن تحضر كل الطبوع في سهرات رمضان لهذا العام، من الترقي، القبائلي، الشاوي، العاصمي وكل الجزائر سيحضر صوتها، رغم أن هناك استثناءات وقامات ستكون في الموعد وتصنع الفارق. ستكون هناك 15 سهرة فنية أو أكثر حسب إمكانيات هذه المؤسسة، كما أوجه عبر جريدتكم الموقرة نداء للجمهور، من الآن، للحضور بقوة والاستمتاع بالأذواق التي يهواها وتنال إعجابه.
رمضان شهر مبارك للعبادة وللوحدة ورص الصف، والفن يجمع ولا يفرق ولا يشتت.
ونحن الآن بصدد الاتصال بفرق عالمية عديدة لتحضر لكن بالمقابل أيضا، نمنح فرصا لفناني هذا الوطن ليبدعوا في العزف في بلدان أخرى. الأهم التعريف بتراثنا وثروتنا الفنية التي نعتز بها كجزائريين، بل من الأجناس من يحسدنا على هذا الثراء الراقي.
أستاذنا.. كنتم تديرون المعهد العالي للموسيقى والمسؤولية هناك تكوين أجيال من الموسيقيين وكل العمل وسط الطلبة، واليوم أنتم على رأس “الأوبرا” والتحدي تقديم ما هو أرقى بحجم هذا المكان.. أين تجدون ضالتكم أكثر؟
هذا سؤال وجيه. أنا شخص تسري الموسيقى في عروقه، وحبي لهذا المجال جعلني أتأقلم، وحيث تم توجيهي أقوم بواجبي. وهي الصفة التي أعتز بها كجزائري لأنني أعمل باحترافية، بإخلاص وتفان. لا أزال مع الطلبة وسأشرح لك ذلك. نظمنا العديد من المهرجانات والمهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية الذي تحدثنا عنه آنفا.. هو مدرسة تكوين. كيف ذلك؟ ضيوفي أنا في هذا الموعد هم هؤلاء الطلبة الذين يقدمون من الأغواط، الشلف، الجلفة، قسنطينة، وهران، بسكرة، باتنة، بشار. هؤلاء علينا الاستثمار في طاقاتهم. في الطبعة 13 للسنة الماضية، تكفلت بإيوائهم وإطعامهم ونقلهم، ونظمت لهم دروس “ماستر كلاس” طيلة فترة المهرجان مع فنانين عالميين قدموا عروضا كبيرة هنا بأوبرا الجزائر. وكان هذا رضا شخصي أكثر من أن يكون مهنيا أو أي شيء آخر.. هر عطاء لا يضاهيه ثمن وأعتز أن أقوم به كشخصية ثقافية في بلدي تسلمت ثلاثة أوسمة دولية، وهو شرف لي ولوطني. التشريف دوليا في مثل هذه الأوقات ليس سهلا، لكن بفضل الله وبفضل الإرادة السياسية التي فتحت لنا سبل العمل بجدية وكان وراءنا رجال ونساء دعموننا ووفروا لنا الإمكانيات لبلوغ ما بلغته دول لها باع في الثقافة والفنون.
في السنوات الأخيرة هناك نوع من التثمين للفنون.. إقرار بكالوريا الفنون، وإجراءات أخرى تم اتخاذها. ما تعليقكم؟
نحن نستشهد بالخطاب الأخير للرئيس أين أكد لنا أهمية هذا المجال. لنذهب للسينما على سبيل المثال حين نذكر فيلم “معركة الجزائر” أو فيلم ” بوعمامة”.. نستمع مباشرة للموسيقى.. ندرك تماما أنها موسيقى وهوية تلك الأعمال الضخمة في الفن السابع الجزائري. حتى في السينما العالمية، لا يمكن معرفة الأفلام من الوهلة الأولى بل نكتشفها بالموسيقى المدرجة فيها. هذا ما جعلنا نواصل في مهامنا. كل ما هو أكاديمي باق ولن يندثر أبدا. طلبتنا اليوم بإمكانهم اجتياز بكالوريا الفنون، دون أن نغفل كذلك عن تكريس نظام “ليسانس-ماستر-دكتوراه” في المعاهد العليا الفنية، وكل هذا بفضل رؤية رئيس الجمهورية في المجال٫ ولا ننسى المعهد الوطني للسينما، معهد “”إيسماس” ببرج الكيفان، المدرسة العليا للفنون٫٫كل هذه الهياكل ستساهم في صون تراثنا الفني الكبير، ونعود للموسيقى – لكونها فضائي- حين نكتب أي نوع موسيقي نكون قد حددنا هويته ومنبعه. كل العروض الفنية الأجنبية التي نقترحها عندنا ويقدمها موسيقيين عالميين ندرج فيها فننا ليعزفونه ويشاركوه في أعمالهم، وبفضل هذه المدارس بتنا نملك سجلا ثريا وربيرتوار للمدرسة الموسيقية الجزائرية لا نخجل به ونرجع إليه في وقت الحاجة. العديد من الأجانب يطلبون منا مقطوعات موسيقية خاصة بنا.. لن أتردد في تقديمها.. هذه “حيزية”، هذه “بختة”، وتلك “يما ڤورايا”، هذه “قم ترى”، تلك “صب رشراش”. هذا هو الباع الجميل الذي نريد أن يبرز ونعتز ونفتخر به لأن العالم اليوم نهج كبير يعرض فيه كل شيء.. مجرد الضغط على زر واحد نطل على كل الثقافات.. حتى في الأوبرا يتابعوننا عبر مختلف العالم، لهذا من الضروري أن يرافق المتعاملون الاقتصاديون هذا الزخم بالمساهمة، ليس بتقديم الأموال بل بالمساهمة في النقل، الإيواء، الإطعام وأمور أخرى حين يحتضن هذا الحضن ما يعزز ويظهر ثقافتنا بين الأجناس الأخرى..
نتحدث قليلا عن المرجعية الجزائرية في الثقافة، ونركز على التراث الموسيقي وبعض محاولات السطو التي دفعت السلطات للتسريع لتصنيفه دوليا.. كيف يرى الأستاذ بوعزارة المسعى؟
قلت آنفا إن العالم اليوم مجرد شارع وكل ثقافات العالم متاحة٫ لكن الأهم في مثل هذه الحالات هو التكوين.. التكوين هو العمود الفقري.. الشاب الذي يدرس عليه يملك فضولية معرفة ما يحدث في تمنراست، في تيزي وزو، وفي أية جهة. لتكون الدقة عليه أن يعثر على بحوث ويعود للمنبع لإبعاد الشبهة. حين يشك أي طرف نرد ونقول إننا بحثنا عن هذا في ڤورارة، في الأغواط.. ويحسم النقاش. بالنسبة لنا كأكاديميين وجامعيين وموسيقيين ومحترفين نتعامل مع المادة الخام بطريقة علمية ونقدمها كسيمفونية دولية. حين ندوّن ونكتب تراثنا ونسجله في كتب، سيتعامل معه الجميع لأن الموسيقى عالمية. هدفنا عدم ترك الموسيقى الجزائرية تندثر ونستغلها لتشتهر دوليا بعد كتابتها وتوثيقها وتسجيلها.
كلمة نختم بها حوارنا الأستاذ بوعزارة..
بودي أن أقول لنجعل من الثقافة إطار لإثراء فكر الإنسان وتشبعه بالقيم الإنسانية النبيلة.
تعليقات 0